افتتحت النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية أبوابها رسميًا في 25 يناير بمدينة جدة، مجتمعةً نخبة من الفنانين، والمقتنين، والقيمين الفنيين، والمبدعين من مختلف أنحاء العالم. يُقام الحدث في صالة الحجاج الغربية بمطار الملك عبدالعزيز الدولي، الحائزة على جائزة الآغا خان للعمارة، مما يمنح البينالي خلفية أيقونية تكرّس روح الفن، والثقافة، والتواصل الروحي في إطار تاريخي فريد.
تستمر النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية حتى 25 مايو، واعدةً الزوار بتجارب استثنائية وبرنامج متكامل يسلط الضوء على الإبداع الإسلامي المعاصر والتقاليد التراثية. ولمساعدتك على استكشاف أبرز معالمه، قمنا باختيار أهم اللحظات والمحطات الفنية التي تجسد جوهر هذا الحدث الثقافي المتميز.
كسوة الكعبة المشرفة
تحمل الكسوة، التي يعود أصل تسميتها إلى الفعل العربي “كسى” بمعنى “غطّى” أو “ألبس”، رمزية روحية عظيمة، حيث تزيّن الكعبة المشرفة بكساء فاخر يتجدد سنويًا. وعلى الرغم من أن عادة توزيع أجزاء الكسوة على الشخصيات الدينية مستمرة منذ قرون، فإن الكسوة التي أُزيلت في 1 محرم 1446 هـ (7 يوليو 2024 م) قد تم الاحتفاظ بها بكاملها، في سابقة استثنائية، ليتم عرضها كاملةً لأول مرة ضمن فعاليات البينالي. هذه الفرصة النادرة تمنح الزوار إمكانية التأمل في عظمة الكسوة ورمزيتها، والتفكر في قدسية الكعبة المشرفة التي احتضنتها.
كما يتزامن هذا العرض مع الاحتفال بمرور قرن من إنتاج كسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، وفق التقويم الهجري.
“قبل آخر سماء” – نور جودة
تستلهم الفنانة الليبية نور جودة، المولودة في القاهرة عام 1997، فنها من عملية الصباغة اليدوية البطيئة، حيث تعتمد على تقنيات تقليدية لإنتاج أعمالها النسيجية. في عملها الفني “قبل آخر سماء”، تعكس جودة جوهر الصلاة، حيث توجه تركيبة العمل نحو مكة المكرمة.
يتألف هذا العمل من ثلاث قطع نسيجية تجسد حركات الصلاة الأساسية: الركوع، السجود، والجلوس. من خلال هذا الثلاثي الفني، تستعرض جودة التحولات الروحية التي يمر بها المصلون أثناء أداء عباداتهم، إذ تحول سجادة الصلاة، باعتبارها عنصرًا يوميًا، المكان العادي إلى فضاء مقدس. كما تتضمن التركيبة بوابات معدنية معلقة مستوحاة من زخارف المساجد، تتجه نحو السماء، مما يرمز إلى الصلة الدائمة بين الأرض والسماء.
“زهور مقطوفة” – آلاء يونس
شهدت صناعة زراعة الأزهار في غزة ازدهارًا كبيرًا بين عامي 1991 و2008، حيث تم تصدير قرابة 75 مليون زهرة مقطوفة سنويًا، ولكن نتيجة للقيود المشددة، والحواجز العسكرية، والتأخيرات اللوجستية، تعرضت هذه الصناعة لانهيار تدريجي، حتى انخفض التصدير إلى 5 ملايين زهرة فقط بحلول عام 2012.
في عملها الفني “زهور مقطوفة”، تستكشف الفنانة آلاء يونس، ذات الأصول الأردنية-الفلسطينية، تاريخ صناعة الأزهار في غزة، مسلطةً الضوء على أزهار الأقحوان، والورود، والقرنفل، التي كانت تزرع في بيت لاهيا ورفح خصيصًا للتصدير عبر سوق الأزهار الهولندي. يسلط العمل الضوء على هشاشة هذه الزهور وزوالها السريع، مما يعكس الواقع القاسي الذي واجهته هذه الصناعة.
وقد استوحت يونس بحثها من مجموعة صور صحفية التقطها المصور عبيد الخطيب ونُشرت في 14 يناير 2004، حيث أظهرت أطفالًا فلسطينيين يقدمون زهور القرنفل للحجاج العالقين عند معبر رفح أثناء انتظارهم للانطلاق إلى مكة المكرمة. تقول يونس:
“من المحتمل أن تكون بعض هذه الأزهار قد وصلت إلى صالة الحجاج في جدة، حيث يقام بينالي الفنون الإسلامية اليوم، وربما لا تزال آثارها باقية في هذا المكان. من هنا جاءت فكرة الحديقة النابضة بالحياة التي نأمل أن تنمو وتزدهر على مدار الأشهر المقبلة، لتستضيف زوار البينالي داخلها.”
“الجاذبية” – أحمد ماطر
يقدم الفنان السعودي أحمد ماطر في عمله الفني “الجاذبية” تمثيلًا مذهلًا لطواف الحجاج حول الكعبة المشرفة عبر مجسم مغناطيسي مصغر. يجسد العمل الشكل المكعب للكعبة من خلال مجسم أسود مغناطيسي، حيث تتفاعل معه برادة الحديد التي تدور حوله بفعل المجال المغناطيسي، في محاكاة لحركة الطواف أثناء الحج.
يبرز هذا التكوين التباين الديناميكي بين اللون الأسود للمكعب وجزيئات الحديد المتحركة على القاعدة البيضاء، مما يعكس التوازن بين قوى الجذب والتنافر، وهي فكرة تتماشى مع مفهوم التوازن والتناغم الكوني في الإسلام. يقول ماطر:
“من خلال الجاذبية، أطرح فكرة أن الكون يقوم على توازن بين القوى المتضادة، حيث يتناغم كل شيء وفق نظام دقيق. مثل الشعر، يعبر عملي عن المدى الواسع والتفاصيل الدقيقة، كاشفًا عن الانسجام المتأصل في الخلق.”
“حين رحبنا بالريح” – لويس غيوم
يستلهم الفنان لويس غيوم عمله الفني “حين رحبنا بالريح” من المشربية، ذلك العنصر المعماري الإسلامي الذي صُمم لتنظيم الضوء، وتدفق الهواء، ودرجة الحرارة، مما يجسد حكمة الهندسة الإسلامية في التكيف مع المناخ.
تتألف هذه التركيبة من مشربية دائرية كبيرة منسوجة بخيوط مصنوعة من البذور، مما يستحضر تشققات الجفاف وأزمة المناخ العالمية. تستخدم الهندسة الزخرفية لتجسيد الخلايا الحية، مستكشفةً أوجه التشابه بين آليات تنظيم حرارة الإنسان والحلول المعمارية الذكية.
يتفاعل العمل مع نسيج مدينة جدة العمراني، حيث تشكل شرفات المشربيات سمة معمارية بارزة، ليعكس التنوع الثقافي الذي ميز المدينة كممر رئيسي نحو مكة المكرمة. كما يسلط العمل الضوء على التراث الغني للمنطقة، ويطرح تساؤلات حول ضرورة تبني ممارسات معمارية مستدامة لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة عالميًا.
جائزة المصلى
أطلقت مؤسسة بينالي الدرعية جائزة المصلى، وهي مسابقة معمارية دولية رائدة أُعلن عنها من صالة الحجاج الغربية، تهدف إلى إعادة تصور أماكن العبادة عبر تصاميم مرنة، مستدامة، وقابلة للتكيف مع مختلف البيئات.
التصميم الفائز، الذي نفذه استوديو إيست للهندسة المعمارية بالتعاون مع الفنان رايان ثابت والمهندسين AKT II، يستلهم التقاليد الإقليمية في الحياكة، حيث يستخدم مواد معاد تدويرها من أشجار النخيل المحلية. يتميز هذا المصلى بهيكله الذي يشبه المنوال، ويحتوي على فناء مركزي مفتوح ومساحات للصلاة، مما يعزز قيم التقارب والتواصل الجماعي، التي تعد جوهر التجربة الروحية في الإسلام.
سيظل المصلى الفائز معروضًا طوال فترة البينالي، داعيًا الزوار إلى التأمل في دور العمارة في تشكيل المساحات الروحية والمجتمعية.