“الاستماع إلى صوتها يجعل الحياة أكثر احتمالًا”، هكذا وصف المخرج المسرحي المصري حسن الجريتلي الفنانة اللبنانية الأسطورية صباح. وأضاف: “تشعر أنها تمتلك حياة أكثر من كثير من الأحياء.”
بشخصيتها الجريئة، وأسلوبها المترف، وجاذبيتها التي لا تضاهى، كانت صباح تمثل النور الذي أضاء سماء العالم العربي. بشعرها الأشقر المميز، وأزيائها المتألقة، وصوتها الذي يسيطر على أي مكان تحل فيه، وضعت صباح المعايير لما يعنيه أن تكون “ديفا” حقيقية.
أطلقت عليها الجماهير العديد من الألقاب التي أصبحت أيقونية مثل “الشحرورة”، “صبّوحة”، و”الأسطورة”، لكن القليلين يعرفونها باسمها الحقيقي: جانيت فغالي
وُلدت صباح في 10 نوفمبر 1927 في قرية بدادون بجوار جبل لبنان. بدأت رحلتها نحو النجومية في سن الثالثة عشرة، وبحلول الأربعينيات كانت قد لفتت الأنظار في المنطقة، لتشق طريقها إلى السينما المصرية، التي كانت آنذاك مركز الفن العربي.
كان فيلمها الأول القلب له واحد (1945) بداية انطلاقتها الكبرى، حيث تبنّت لأول مرة اسم “صباح”. تشير بعض الروايات إلى أن الشاعر صالح جودت هو من اختار لها هذا الاسم، بينما تقول روايات أخرى إن مجلة الصباح المصرية طلبت من قرائها اقتراح اسم لها، واختار الجمهور “صباح” ليعكس إشراقة وجهها.
على مدار مسيرتها التي امتدت لأكثر من ستة عقود، كانت صباح رمزًا للجرأة والتفرد. تحدّت التقاليد المجتمعية، وأعادت تعريف الأنوثة في العالم العربي. كانت تعيش حياتها بشروطها الخاصة، حتى لو أثارت الجدل، وغالبًا ما وُصفت بأنها “المرأة التي أذهلت العالم العربي”.
لم تكن صباح تخشى كسر المحظورات، لكنها فعلت ذلك بطريقة طبيعية، ربما دون أن تدرك أنها تسبق عصرها. شخصيتها الحرة انعكست في فنها وحياتها، لتصبح رمزًا للحرية والإبداع.
قدمت صباح أكثر من 100 فيلم، و25 عرضًا مسرحيًا، وأربعة أعمال إذاعية، وأكثر من 3,000 أغنية. تعاونت مع أبرز الملحنين المصريين، وأتقنت فن الموال اللبناني التقليدي. أغانيها الشهيرة مثل زي العسل، يانا يانا، وأخدوا الريح أصبحت جزءًا من وجدان الجماهير، بفضل قدرتها الفريدة على المزج بين العاطفة والفن.
لم يقتصر تأثير صباح على الشرق الأوسط فقط، بل امتد عالميًا. أدت على مسارح عالمية شهيرة مثل الأولمبيا في باريس، وكارنيجي هول في نيويورك، ومسرح بيكاديللي في لندن، ودار الأوبرا في سيدني. حيثما حلت، كانت تأسر القلوب بحضورها الطاغي وصوتها الآسر.
لم تكن صباح مجرد فنانة، بل كانت أيضًا رمزًا للأناقة. عُرفت بتسريحاتها الجريئة، وأزيائها التي تفيض بالتألق، وأسلوبها الذي يحتضن الجرأة قبل أن تصبح موضة سائدة. رفضت المعايير التقليدية لما “يجب أن تكون عليه المرأة العربية”، وقالت في مقابلة عام 1975: “أنا امرأة، أستطيع أن أكون كل شيء”، ردًا على سؤال عما إذا كانت تعتبر نفسها ربة منزل.
في عام 2011، تم الاحتفاء بحياتها وأزيائها من خلال معرض خاص أقيم في مهرجان بيت الدين، والذي حضرته صباح بنفسها، ليكون شاهدًا على إرثها الفني والإنساني.
بينما انشغل البعض بالحديث عن زيجاتها المتعددة، فإن إرث صباح يتخطى ذلك بكثير. كانت صباح فنانة كرّست حياتها للفن والإبداع، ورفضت أن تُختزل حياتها في صفحات التابلويد.
في 26 نوفمبر 2014، رحلت صباح عن عمر يناهز 87 عامًا، تاركة إرثًا فنيًا وإنسانيًا لا يُضاهى. أثار خبر وفاتها حزنًا عميقًا في العالم العربي، وامتلأت شوارع بيروت بآلاف المحبين الذين جاؤوا لتوديعها. غنّت بيروت أغانيها وهي تودعها، لتصبح أغانيها صوتًا للحب والذكرى.
كانت صباح تتنبأ بأنها ستظل حاضرة في الذاكرة حتى بعد رحيلها. قالت ذات مرة: “حتى في موتي، الناس يتحدثون عني. سأعتبره احتفالًا، وليس جنازة”. وفي مقابلة مع إذاعة مونت كارلو، قالت: “الموت ليس مخيفًا. لقد شبعت من هذه الحياة. دعوني أختبر شيئًا جديدًا.”