معضلة أن تكون من أبناء الثقافة الثالثة

في كل مكان ولا مكان

في البلاد التي هاجرنا إليها، نحن غرباء. وبعد سنوات من العيش في الخارج، عندما نعود إلى المكان الذي يُفترض أن يكون “الوطن”، نجد أنفسنا غرباء هناك أيضًا.
مصطلح “أبناء الثقافة الثالثة” كان في الأصل تعبيرًا مهذبًا يصف من يعيش أزمة هوية عميقة. كثير منا يفهم هذا الشعور جيدًا: اقتُلعت جذورنا من أوطاننا في سن صغيرة، ربما بحثًا عن جواز سفر غربي يسهل لنا الحياة، أو سعياً وراء فرص كانت تبدو بعيدة المنال في الوطن. عائلاتنا هاجرت طمعًا في “حياة أفضل”، لكن هذا السعي للاستقرار جاء بثمنٍ باهظ—أزمة هوية تستمر لعمرٍ كامل، تتركنا في حالة مستمرة من الحيرة والاغتراب.

كان أول من صاغ مصطلح “أبناء الثقافة الثالثة” عالمة الاجتماع الأمريكية روث هيل يوسيم في خمسينيات القرن الماضي، لتصف الأطفال الذين ينشأون في ثقافات مختلفة عن ثقافة آبائهم. وغالبًا ما يكتسب هؤلاء الأطفال مهارات لغوية متعددة، ووعيًا عالميًا، وفهمًا عميقًا للثقافات المختلفة. لكن يوسيم حذرت أيضًا من أن هذه الحياة قد تزرع شعورًا عميقًا بعدم الانتماء، حيث يشعر الشخص بأنه ينتمي “إلى كل مكان ولا مكان” في الوقت نفسه.

بالنسبة لكثير من أبناء الثقافة الثالثة، تصبح الثقافة الغربية جزءًا متجذرًا فينا، تشكل أفكارنا وتجاربنا بعمق. ولكن مع مرور الوقت، يبدأ شعور غامض بالتململ يظهر، وكأن شيئًا مفقودًا أو خارج عن المألوف. هذا الشعور يدفعنا لنسأل: ما هو “الوطن” حقًا؟ يتحول مفهوم “الوطن” إلى فكرة متغيرة، مكان غامض لا نستطيع تحديده بسهولة.

نتساءل أحيانًا: كيف يكون الأمر أن تنشأ في مكان واحد، حيث تعرف كل شيء وتحيط بك أشخاص يشبهونك في الشكل واللغة وأسلوب الحياة؟ ومع ذلك، هناك قوة خفية في أن تكتشف هويتك وسط أشخاص يختلفون عنك. هناك صلابة تتكون عندما تتعلم التنقل في عوالم قد لا تقبل حقيقتك أو حتى تفهمها. أبناء الثقافة الثالثة غالبًا ما يخرجون من هذه التجربة بقدرة فريدة على التكيف، قادرين على قراءة الناس بسهولة، والتنقل في أماكن غير مألوفة بثقة، ومواجهة التحديات بصمت وقوة—لأن عدم الراحة كان دائمًا جزءًا من حياتهم.

لكن عدم الانتماء قد يحمل هدية غير متوقعة. فهو يمنحك حرية نادرة—فرصة لتشكيل هويتك قطعة قطعة، بجهد واعٍ لفهم جذورك الحقيقية. أحيانًا، يتطلب العثور على الذات أن نضيع قليلاً في الطريق. هويتنا يمكن أن تصبح مزيجًا غنيًا من الأماكن التي عشناها، طالما تمسكنا بجذورنا. بمعرفة من أين أتينا، يمكننا أن نتصالح مع من نحن، حتى لو ظل مفهوم “الوطن” سؤالًا مفتوحًا.

لذا، من شخص ينتمي للثقافة الثالثة إلى آخر: عد إلى وطنك. اقضِ وقتًا مع أجدادك وأبناء عمومتك، في بيت عائلتك، لتتعرف على الجذور التي شكلتك. تعلم لغتك واحتفِ بجمالها، ولا تخشَ أن تخطئ—فالخطأ جزء من الرحلة. استكشف كل زاوية من المكان الذي ولدت فيه: من الكشك الذي يبيع ذلك البسكويت المألوف، إلى المسجد في الحي حيث يجتمع الجميع في صلاة العيد، إلى البواب الذي يقف تحت البناية، ربما بمراقبة مفرطة.

رغم التعب الذي يأتي مع كونك من أبناء الثقافة الثالثة، في دوامة دائمة من “من أنا؟”، نحصل على فرصة نادرة: أن نصوغ أنفسنا عن وعي. العثور على الذات ليس مجرد هدية تُمنح، بل رحلة نختار أن نخوضها.

شارك(ي) هذا المقال