بعض اللحظات في الحياة تترك أثرًا لا يزول، سواء في ذاكرتنا الشخصية أو في ذاكرة الأمة. صباح 29 نوفمبر 2003 كان من تلك اللحظات التي لا تُنسى لتونس والعالم العربي. إنه اليوم الذي فقدنا فيه ذكرى محمد، واحدة من ألمع وأعمق الأصوات الغنائية في شمال إفريقيا، في مأساة ما زالت تبدو غير قابلة للتصديق حتى الآن. في الليلة السابقة، أطلق زوجها، أيمن السويدي، رجل الأعمال المصري، النار عليها بسلاح رشاش. خمسة عشر رصاصة (نعم، الرقم صحيح)، أنهت صوتًا لمس قلوب الملايين.
في الأيام التي تلت رحيلها، تجمع الملايين أمام شاشات روتانا لتكريم ذكرى واستعراض مسيرتها الاستثنائية وروحها التي لا تُقهر. كانت موهبة نادرة، امتدت طبقات صوتها وعمق إحساسها لتُقارن بأساطير مثل أم كلثوم ووردة الجزائرية. بالنسبة للكثيرين، كانت رمزًا للأمل في استعادة العصر الذهبي للموسيقى العربية.
لكن بالنسبة لنا نحن التونسيين، كانت ذكرى أكثر من ذلك. كانت شجاعة، وحلمت أحلامًا كبيرة، وعملت بجد لتحقيقها. لم تخف من تخطي حدود تونس ومشاركة صوتها مع العالم. غنّت لجماهير في الخليج ومصر وبلاد الشام. قلة من الفنانين المغاربة فعلوا ما فعلته، وكان ذلك مصدر فخر كبير لنا. نجاحها لم يكن لها وحدها؛ بل شعرنا أنه نجاح لنا أيضًا.
لكن خلف هذا النجاح، كان الخطر يحدق بها. الرجل الذي كان من المفترض أن يكون أكبر داعميها تحول إلى قاتلها. لماذا؟ يمكننا فقط التخمين، لكن القصة مألوفة جدًا: عندما تكون النساء قويات، ناجحات، ومستقلات، يشعر بعض الرجال بالتهديد. قصة ذكرى ليست مجرد قصة شخص واحد أو فعل عنف، بل هي مرآة لكيفية تعامل المجتمع مع النساء اللواتي يتألقن بجرأة.
تونس نفسها تحمل ذكرى مشابهة مؤلمة: حبيبة مسيكة، المغنية اللامعة في عشرينيات القرن الماضي التي لُقّبت بـ”ساحرة القلوب”، قُتلت حرقًا على يد حبيب سابق لم يستطع تقبل استقلالها. تشترك ذكرى ومسيكة في خيط مأساوي—ذكاء وطموح جعلهما أهدافًا في مجتمعات لم تتقبل النساء الناجحات دون اعتذار.
ما يربط بين هذه القصص هو الخوف—الخوف من حرية النساء واستقلالهن. رجال مثل زوج ذكرى يرون نجاح المرأة تحديًا لسلطتهم، فيردون بالعنف. لا يريدون مشاركة الأضواء، بل يريدون السيطرة عليها. الأمر ليس شخصيًا فقط، بل هو جزء من مشكلة أعمق: كيف يعامل المجتمع النساء اللواتي يرفضن أن يكن صغيرات، صامتات، أو غير مرئيات.
لكن حياة ذكرى لا تختصر في الطريقة التي انتهت بها. وُلدت في 16 سبتمبر 1966 في بلدة صغيرة تُدعى وادي الليل في تونس. آمنت عائلتها بموهبتها، وخاصة والدها الذي شجعها على متابعة شغفها بالموسيقى. في عام 1983، فازت بمسابقة “فن ومواهب”، وأذهلت الجميع بصوتها العميق والمليء بالعاطفة. وكانت تلك مجرد البداية.
في التسعينيات، انتقلت إلى القاهرة، قلب الموسيقى العربية. كانت تعلم أن هناك فقط يمكنها تحقيق إمكانياتها الكاملة. ألبومها المصري الأول، “وحياتي عندك”, صدر عام 1995 وحقق نجاحًا كبيرًا. لم تكن تغني فحسب؛ بل كانت تبتكر شيئًا جديدًا. استطاعت ذكرى الغناء بلهجات عربية مختلفة—المصرية، والخليجية، والتونسية—وجعلت كل واحدة تبدو رائعة. أغانيها، مثل “آسفة”، و”يا أنا”، و”لقيت راسي”, جمعت بين الموال التقليدي والألحان الحديثة، وأحبها الجميع.
حتى الآن، وبعد كل هذه السنوات، تعيش موسيقاها بيننا. لا يزال صوتها يثير القشعريرة في أجسادنا، ولا تزال أغانيها تذكرنا بمن نحن، وتلهم الفنانين الجدد ليحلموا كما حلمت هي.
لكن يجب أن نفعل أكثر من مجرد تذكرها. علينا أن نتحدث عن الأسباب التي أدت إلى ما حدث. علينا أن نسأل لماذا تُعتبر النساء الموهوبات والقويات تهديدًا. علينا أن نغير الطريقة التي نفكر بها حول استقلال النساء ونجاحهن. كانت وفاتها مأساة، لكن حياتها كانت هدية. لا يجب أن ندع قصتها تُنسى.