لقد حان الوقت لإعادة النظر فيما قدمه العرب القدماء في علم الصيدلة الطبيعي

احرصوا على زيارة العطار

لطالما كان شاي الميرمية وجرعة من ماء الورد وزيت النعناع من العلاجات الطبيعية المقوّية التي غالباً ما كان والديّ وأجدادي  ينصحونني باحتسائها في كل مرة كنت أعاني فيها من آلام في المعدة، أو يصفون لي شرب مزيج من الزنجبيل والليمون والعسل لمعالجة التهاب الحلق وكوب دافئ من شاي البابونج للتمتع بنوم هادئ.

إن هذا النوع من الوصفات مألوف جداً في العالم العربي، لطالما استخدمت العلاجات الطبيعية والعشبية في منطقتنا لأغراض الطهي والتجميل والطب على حدٍ سواء. ومن الجدير بالذكر أنّ الطب العربي التقليدي مستمد من طريقة أبقراط اليونانية القديمة، حيث تم تأسيس أولى الصيدليات في العالم العربي (ما يشبه محلات العطارة في ذلك الوقت) في بغداد في عام 754.

لقد كان الطب التقليدي من الأنظمة المعرفيّة السائدة في الخليج في حقبة ما قبل اكتشاف النفط، بالإضافة إلى الطب النبوي الذي كان يمثل النظام الطبي التقليدي الأكثر انتشاراً في الخليج، وهو مستمد من آيات في القرآن والحديث والسنة النبوية التي تركز على الوقاية والعلاج من الأمراض.

وبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، “يعتمد ما يقدر بنحو 80٪ من السكان في كثير من بلدان العالم النامي على أنظمة الطب التقليدية، في حين يستخدم 70-80٪ من سكان البلدان المتقدمة شكلاً من أشكال الطب البديل أو التكميلي”.

وهو الأمر الذي يفسر استمرار وجود العطارين (صيادلة الطب البديل) حتى يومنا هذا في جميع أنحاء المنطقة. حال دخولكم هذه المحلات الجذابة، ستغمركم روائح الأعشاب والخيارات المتعددة من المكونات الطبيعية المتوفرة في المتجر. وأفضل ما في الأمر؟ إن كل المكونات طبيعية (ما عدا الصابون والكريمات المبيضة التي يبدو أننا لن نتخلص منها) ويتم الحصول على معظمها من المزارعين والشركات المحليّة.

ولكن بهدف الاستفاضة في هذا الأمر وكشف دور العطار المتجذر في حياتنا، لا بد من مقارنته بدور الصيدلي، حيث يلجأ الزبائن للعطار شارحين له الأعراض التي يعانون منها وهو بدوره يقوم بتحضير وصفة مكونة من مزيج من الأعشاب والتوابل والزيوت، ناهيكم عن تقديم إرشادات لطريقة استخدام هذه الخلطات.

بالرغم من أن الطب الحيوي قد شهد تطوراً كبيراً وأصبح متوفراً على نطاقٍ واسع، إلا أنّ الأبحاث أثبتت أن الطب التقليدي قد يكون الطريقة الأمثل للناس لأنّه يوفر رعاية صحيّة بأسعار مناسبة، وفي هذا الصدد أفاد مقال في صحيفة Arab News بأنّ معاناة مصر من الأزمة الاقتصادية قد أدت إلى نقص في كميات الأدوية، مما اضطر المصريون إلى اللجوء إلى العطارين للحصول على “العلاجات العشبية للأمراض اليومية”، الأمر الذي يؤكد على أهمية وجود العطارين بسبب سهولة الوصول إليهم وقدرة الشريحة الأكبر من المجتمع على تحمل تكاليف العلاج الذي يقدمونه.

كما أثبتت دراسة حديثة تبحث في “النباتات الطبية المستخدمة في جدة في المملكة العربية السعودية من منظور جنساني” أنه بالرغم من أن العديد من الرجال يلجأون للنوعين من العلاج، إلا أنّ عدد الرجال الذين يفضلون الطب الحيوي على الطب التقليدي أكبر من النساء، ناهيكم عن أنّ معظم الرجال والنساء يستخدمون النباتات الطبية الطبيعية أولاً عندما يشعرون بوعكة صحيّة، وفي حال استمرت الأعراض لأكثر من ثلاثة أيام، فمن المرجح أن يلجأ الرجال لزيارة الطبيب، في حين أنّ المرأة تحتاج وقتاً أطول قبل التفكير في زيارة الطبيب. بشكل عام، لا يزال سكان مدينة جدة يستخدمون العلاجات المنزلية لعلاج الأمراض البسيطة ولا يزال لاستخدام النباتات الطبية دور هام في الرعاية الصحية الحضرية.

وغني عن القول بأنّ أكثر الأمراض شيوعاً والتي يلجأ فيها الزبائن للعطار هي مشاكل الجهاز الهضمي، والتي غالباً ما يكون فيها النعناع والزنجبيل من المكونات العلاجية المفضلة.

وفي هذا السياق تحدثت إلى وليد، وهو عطار محلي في جدة، وأخبرني بأن حوالي 60٪ من زبائنه هم من النساء، حيث قال “تأتي النساء بحثاً عن مجموعة من المكونات والوصفات، ولكن في الآونة الأخيرة تزايد طلبهن على الزيوت التي تفيد الشعر والأعشاب التي تستخدم لصناعة أقنعة التجميل، كما أنّهن يبحثن عن الأعشاب التي تعمل على تعزيز الهرمونات الأنثوية وتنظيم عملية الحيض”.

وهذا الكلام ليس بالأمر المفاجئ بالنظر إلى الزيادة الملحوظة في استخدام العلاجات المنزلية والمغذيات وعلاجات العناية بالبشرة الطبيعية التي أصبحت صيحة يتم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن أن يعزى ذلك إلى التوجه نحو الاستدامة واستخدام المكونات صديقة البيئة كونهما من الموضوعات الرئيسية لهذا العقد. وتعليقاً على هذا الموضوع يقول وليد “عادة لا يستخدم الناس المنتجات الطبيعية لأنّ نتائجها لا تظهر إلا بعد فترة طويلة من الاستخدام المتسق، في حين أن الخيارات الكيميائية تعطي نتائج سريعة ولكنها لا تخلو من الآثار الجانبية”، إلا أنّ هذه الفكرة تتغيّر بعض الشيء حيث يصادف وليد زبائن في ريعان الشباب (خاصة من النساء) يبحثون عن منتجات وأعشاب طبيعية محددة.

كما أظهرت الأبحاث أنه بالرغم من أنّ أفراد الأسرة هم المصدر الرئيسي للمعرفة، لا سيما المعارف التقليدية المتوارثة عبر الأجداد، إلا أنّ وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تشكّل مصادر قيمة وغنية بالمعلومات، وتعقيباً على هذا، أكد وليد ازدياد عدد زبائنه خلال فترة الوباء الذين جاءوا بحثاً عن علاجات لتقوية مناعتهم مثل العسل وزيت الحبة السوداء، وهو الأمر الذي كان جلياً على مواقع مثل iHerb الذي شهد بيع كل المنتجات المتعلقة بدعم المناعة.

ومن الجدير بالذكر أنّ معارف الشعوب الأصلية التي تأتي مع هذه الممارسات “قد تكون تقاليد تم تناقلها بشكل شفهي وسري عبر الأجيال” إلا أنّها في الآونة الاخيرة قد تم توثيقها عبر الإنترنت أو نشرها علناً على وسائل التواصل الاجتماعي.

بالرغم من أن الطب التقليدي يشكل جزءاً هاماً من هوية “المجتمعات الثقافية، إلا أنّ هذا الشكل من التراث الثقافي غير المادي بات عرضة للخطر في عالم يتحول إلى العولمة، حيث لن يتبقى سوى حيّز صغير لحماية هذا النوع من المعلومات”. ناهيكم عن أنّ انتشار صيحات استخدام المواد الطبيعية للعناية بالبشرة وسهولة الوصول إلى العلامات التجارية والمنتجات العصرية (وربما التي تدعي بأنها صديقة للبيئة ومستدامة) عبر الإنترنت قد تؤثر بشكل كبير على العطارين، بالإضافة إلى أنّها قد تتسبب في تعرّض معارف الشعوب الأصلية لخطر الاستيلاء الثقافي مثل طقوس حرق المريمية وأعشاب بالو سانتو. وفي هذا الشأن كشفت الدراسات الاستقصائية الحديثة عن أن علماء الصيدلة المحلية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا “يبتعدون بشكل متزايد عن معرفة أسلافهم” ويرجع ذلك في الغالب إلى عدم توثيق تلك المعرفة كتابياً وإلى أنّ علماء الأدوية المحلية لا يقومون بعملية البحث عن الأعشاب وجمعها بأنفسهم.

نظراً لكون الصيدليات عنصراً أساسياً في العديد من المجتمعات العربية وذات قيمةٍ ثقافيةٍ غنية، بات من الضروري أن تشملها حركة “تسوق ودعم المنتجات المحلية”، ومن الضروري أيضاً حماية هذا الجزء الأساسي من تراثنا الفكري والثقافي غير المادي والممارسات وأنظمة المعرفة لمجتمعنا المحلي والأصلي من الاندثار وذلك من خلال توثيق معارف أجدادنا وممارسة العلاجات الشعبية كلما سنحت الفرصة لذلك.

شارك(ي) هذا المقال

مقالات رائجة